ذهبت قبل فترة إلى بيت عزاء لأحد الأقارب ، حيث كان المتوفى رحمة الله عليه يشكو من مرض السرطان ، وقد عانى بما فيه الكفاية ، صعدت روحه لبارئها بعد شهور من المعاناة ومصارعة المرض ، رحلة علاج من مستشفيات القطاع الفقيرة بالعلاج الكيماوي إلى مصر ومن ثم إلى دولة الاحتلال المسماة " غصب عنا " إسرائيل وفي النهاية إلى قبره تحت الثرى .
ذهبت لبيت المتوفى لكي اعزي زوجته وبناته بمصابهم الأليم ، وكانت زوجته متأثرة جداً برحيله إلا أنها كانت صابرة بقضاء الله وقدره ، تفحصت وجوه المعزيين وباقي الأقارب ، ووجدت كل امرأة تضع رأسها في رأس جارتها وتتحدث ، إما عن فلانة أو علانة ، فتلك المرأة تشكو قسوة زوجها ، وتلك تسخر من حماتها ، والأخرى تشكو ارتفاع الأسعار ، وفي تلك الزاوية تحاول أخرى إخفاء ضحكتها بكف يدها ولكن عيونها تفضحها.
سرحت بخيالي وسؤال يهاجمني بشراسة كالعادة ، ليحرق أنفاسي ويشغل رأسي لوقت ليس بالقصير.. لماذا نحن هكذا ؟ لماذا لم نراعي شعور تلك المرأة المكلومة والحزينة ؟ لماذا نستهين بالحدث الجلل الذي نحن به ؟ لماذا قست قلوبنا لهذه الدرجة ؟ لماذا أصبحنا لا نهتم أو نراعي شعور الآخرين من حولنا ؟ نجلس في حضرة الموت ولا يهتز لنا جفن ولا بدن ؟
ألف علامة استفهام تحوم حول رأسي ولا أجد إجابة .
أصبحت قلوبنا قاسية ، لا نهتم لشيء ، حتى رؤية الدماء التي تسيل في شوارعنا ليلاً ونهاراً ، أصبحت شيئاً عادياً .
يرحل من يرحل ، ويموت من يموت .. عادي !
تراق الدماء على جانبي الطريق ... عادي !
مجرم يعذب طفل حتى الموت .. عادي !
خال يغتصب ابنة أخته الصغيرة ثم يقتلها .. عادي !
أخ يخون أخاه مع زوجته وتحمل منه سِفاح .. عادي !
رجل يتنكر لوالدته ويرمي بها في دار للمسنين .. عادي !
أب يُكره ابنته على الزواج من رجل في عمره .. عادي!
أب يقتل أبنائه الثلاثة انتقاماً من زوجته لطلبها الطلاق .. عادي!
شقيق يقتل شقيقته وزوجها وأبنائها لتغييرها عقيدتها .. عادي !
مناضل يقتل مناضل من أجل الاختلاف في الرأي .. عادي!
مجرم يقتل ثلاثة أطفال انتقاماً من والدهم .. عادي!
أكل مال اليتيم وأخذ الرشوة والتعامل بالربا .. عادي!
كل شيء أصبح عادياً في عصرنا الحالي .. أصبحت القسوة والظلم والطغيان والعتو عادي .. ما هذا الزمن الذي نعيش فيه ، تبلدت مشاعرنا وتحجرت قلوبنا وماتت ضمائرنا .
عندما حدنا عن الطريق المستقيم ، عندما وضعنا أخلاقنا في معلبات ورميناها جانباً ، عندما ابتعدنا عن قيم وتعاليم ديننا الحنيف ، عندما تخلينا عن عاداتنا وتقاليدنا كعرب ومسلمين ، عندما اخترنا دستور وضعي يحكمنا بدلاً من كتاب الله ، عندما حدث ذلك كله ، كان لابد من عقاب للجميع على أفعالهم ، وتمثل العقاب في صورة القسوة التي غزت قلوبنا جميعاً ، فلم نعد نهتم إلا بمصالحنا الشخصية ، لم نعد نهتم بالصالح العام , ومصلحة المسلمين ، لم نأخذ في عين الاعتبار الآخرين الموجودين والمشاركين لنا في هذه الحياة ، لا نكترث لزلازل اليابان ، ولا نبالي لبراكين أيسلندا ، ولا للحروب والمجاعات في القارة السوداء ، ولا تدمع أعيننا حزناً على انقسام السودان ومجاعة الصومال ، ولا نفكر فيما يحدث في ليبيا أو اليمن ، ولا تونس ومصر ، لا نتأثر بالمذابح في سورية وفي غيرها ، والأدهى من ذلك قول بعض حكامنا: " أنها شأنٌ داخلي" ؟؟!!
منذ متى أصبحت شؤون المسلمين شأن داخلي داخل كل دولة ولا يتعدى خارجها ؟ منذ متى وضعت الحدود والأسلاك الشائكة بين الدول العربية والمسلمة ؟ منذ متى مُنع المسلم من دخول بلاد المسلمين بحجة جواز السفر أو الجنسية ؟ منذ متى ومتى ومتى ..!!
أسئلة كثيرة تتصارع بداخلي أحاول أن ابحث عن إجابات لها ولا أجد . وأتذكر قوله جل جلاله :
اتأمل كلمة " كنتم " ويعتصر قلبي ألماً وحزناً لما آل إليه وضع المسلمين في هذا العصر والأوان...
يا إلهي .. أصلح قولنا وعملنا ، وابعد عنا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، حنن قلوبنا وأزل قسوتنا ورقق مشاعرنا وطهر جوانحنا ووسع خُلقنا .