بالكندرة
منذ فترة طويلة وأنا منقطعة عن الكتابة السياسية لأسباب شخصية
لا أرغب في الخوض فيها الآن، لكن فيديو "بالكندرة"، أعزكم الله، قد
أثار حنقي وغضبي من الحال الذي وصلنا له "قيادةً وشعبًا"، وعصفت
برأسي التساؤلات، كان أقوها: "ما الذي أوصلنا إلى هذا المستنقع القذر الذي
نحن به!؟"
في البداية، لا أدري إذا كان هذا الفيديو حقيقي أم مفبرك أم
مبتور، فنحن في هذا العالم لم نعد نعلم ما هو الحقيقي وما هو المزيف وخاصة أنه
أصبح هواية عند البعض فبركة الأخبار والصور وحتى الفيديوهات.
هذا الرجل الذي لم تظهر صورته في الفيديو المذكور والذي لا
أعرف من هو وما هو موقعه في حركة فتح ، ذلك الموقع أو المنصب الذي خوّل له أن
يتفوه بمثل هذا الكلام ، كيف يخرج ويتجرأ أن يخاطب الناس بهذه الطريقة الفظّة وغير
الناضجة أو الواعية، أي نعم قد شعرت بداخلي أن هذا الكلام لربما خرج على لسانه
كنوع من المزاح ولكن للأسف هذا النوع من المزاح ثقيل وغير مستساغ وغير مقبول
مطلقًا وخاصةً في الظروف الصعبة التي نمر بها.
قبل فترة تداول مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي من النشطاء
الفلسطينيين فيديو للسيدة رجاء الحلبي مسؤول الحركة النسائية في حماس وهي على ما اعتقد
زوجة القيادي في الحركة يونس الأسطل وهي تتحدث في إحدى برامج قناة الجزيرة وتجيب
عن أسئلة اعتقد أنها واردة من المشاهدين، وكان أحد الأسئلة يدور حول تحولها من
الفكر اليساري إلى الفكر الإسلامي ، وفي إطار إجابتها عن السؤال تحدثت عن وضع غزة
قبل نشوء حركة المقاومة الإسلامية وأنه لم يكن هناك "فكر إسلامي في غزة قبل
وجود حماس".
كان من الواضح أن الفيديو تم اقتصاص أجزاء منه ليخرج بالصورة
التي خرج بها، ولذلك لم أرغب في نشره على
صفحتي بل بصراحة شديدة أزعجني رغم أني أعلم جيدًا كيف كان الوضع في غزة قبل وبعد
حماس ، وأن المرأة قالت " فكر إسلامي " ولم تقل " إسلام " وشتان
بين المعنيين ، لكن هناك من لا تعجبه حركة حماس فقام بنشر الفيديو ولسان حاله يقول
انظروا إنها تتهم أهل غزة بالكفر والفسوق وأنهم لم يعرفوا الإسلام قبل مجيء حماس, وقد
تستغربون من كلامي إذا قلت أن المرأة كلامها صحيح ولا تشوبه شائبة فهي لم تقل بأن
قطاع غزة لم يعرف الإسلام قبل حماس بل قالت أن الحياة في فلسطين قبل حماس والشيخ
أحمد ياسين كانت تسيطر عليها البساطة والفطرة بعيدًا عن التوجه الديني وهي تتحدث
من منطلق تجربة شخصية لها وكيف تحولت من الفكر اليساري إلى الفكر الإسلامي وهي
تقصد كما فهمتُ أنه لم تكن هناك حركة فلسطينية قائمة على المفهوم الديني والفكر
الإسلامي قبل حماس ، فالحركات التحررية الفلسطينية كانت إما قومية أو وطنية أو
علمانية ولم تكن هناك حركة دينية بالمفهوم السياسي أي حركة سياسية مبنية وقائمة
على أسس دينية عقائدية.
وكان يجدر بمن نشر الفيديو ومن أعاد نشره أن يعودوا إلى اللقاء
الأصلي مع تلك السيدة دون اقتصاصه بهذه الطريقة الفجة، ورأيي هذا ليس دفاعًا عن
السيدة رجاء الحلبي أو أفكارها السياسية بل هو دفاع عن حقها في التعبير عن هذا
الرأي وهذا الفكر وإن اختلفت معها فيه، لكن لا يجوز لي أو لأي شخص أخر الحِجر على
وجهة نظرها لمجرد اختلافنا معها فكريًا أو سياسيًا، ولا يجوز لي بتر حوارها بما
يخدم مصلحتي الحزبية أو الشخصية، فهذه ليست بأخلاق الشعب الفلسطيني ولا بأخلاق رجاله
الشرفاء الوطنيين.
نعود لموضوع الكندرة، أعزكم الله، مثلما فعل مناصري حركة فتح وقاموا بنشر
فيديو المرأة معلنيين عن غضبهم تجاه تصريحاتها واستنكارهم لوصفهم بأنهم لم يكونوا
يعرفون " الإسلام " قبل الشيخ أحمد ياسين وحركة حماس ، قام مناصري حركة
حماس بنشر فيديو " بالكندرة " معلنيين تشفيهم وسخريتهم من أبناء حركة
فتح والذين سوف يجبرون على انتخاب مرشحي حركتهم ولو بالكندرة.
وهكذا دواليك ، هذا ينشر وهذا يفضح وهذا يشوه الحقائق ، وهذا
يتهم ، وهذا يفتح دفاتره القديمة ، وهذا يقتص جمل وصور تخدمه في الدعاية له وتشوه
الطرف الآخر في انتخابات البلدية ، نعم يا سادة يا كرام ، انتخابات بلدية ، كل هذا
يحدث في انتخابات بلدية والتي من المفروض في أي عالم أو دولة متحضرة تكون قائمة
على المبدأ الخدماتي وليس الحزبي ، بمعنى أن يذهب المواطن لصندوق الاقتراع وينتخب
من يقدر على تقديم الخدمات الجيدة له ، ينتخب الشخص المناسب بغض النظر عن حزبه
السياسي ، العمل في البلدية هو عمل خدماتي وليس تشريفي ، لكن أن نحول هذه الانتخابات لانتخابات حزبية
وأنه يجب على أبناء حركة فتح أن ينتخبوا مرشحي حركة فتح ولو "بالكندرة "
كما يجب على أبناء حركة حماس أن ينتخبوا مرشحي حركة حماس ولو "بالقوة" وطبعًا
البعض من سكان غزة ما زال يتذكر ما حدث في انطلاقة حركة حماس والأخبار، التي لا
نعلم مدى صحتها من كذبها، التي انتشرت كالنار في الهشيم والتي تحدثت عن أن كل شخص
يقبض راتبه من حكومة غزة عليه حضور الاحتفال هو وزوجته وأبنائه سواء أكان من
المنتمين لحركة حماس أو المستفيدين من خدماتها في القطاع وذلك بهدف حشد أكبر عدد
من الجمهور ردًا على مليونية حركة فتح ! وهذا الشيء ليس افتراءً كما أنه لم يكن
مخفيًا عن الجميع بل كان موضع حديث الكل في تلك الفترة وخاصة بين أبناء العائلات
الواحدة وبنفس المفهوم والطريقة التي وردت في الفيديو المذكور: "طالما أنت
تقبض راتبك من حكومة حماس فيجب عليك أن تشارك في مهرجان انطلاقتها أنت وأسرتك
بكاملها وإلا..".
وإذا صح هذا الكلام سواء الوارد في الفيديو أو الوارد على لسان
بعض العاملين في حكومة حماس فهنا تكمن الكارثة لأنه يصبح لا فرق بين النهجين
المتبعين للحركتين وهو الترهيب والتخويف وما أصعب أن تبتز شخصًا بحرمانه من لقمة
عيشه التي تسد رمق أطفاله في أوضاع أقل ما يقال عنها أنها مأساوية مقابل أن يدلي
بصوته لصالحك لمجرد أنك متنفذ ومتحكم بمصدر رزقه ، هذه خسة ونذالة لم نسمع بها ولم
ترد في القاموس الفلسطيني من قبل.
ما الذي حدث لنا كفلسطينيين حتى نتحول لمسوخ يحاول كل شخص
تشويه الآخر، المختلف معه فكريًا أو حزبيًا ، بكل ما يملك من قوة وجبروت وكأن الآخر هو عدوه
اللدود وليس ابن جلدته ، ما الذي حدث لنا كفلسطينيين حتى تتشوه أخلاقنا وتنحرف
بوصلتنا بهذا الشكل المخيف والمرعب ، ما الذي حدث لنا كفلسطينيين حتى نفقد روح
المنافسة الشريفة ، أين هو أدب المقاومة وأخلاق الثوار؟!
لا هذه هي تعاليم ديننا الحنيف ولا هي أخلاق رسولنا الكريم، ولا
هي وصايا الشهداء والأسرى، ولا هي قواعد المسلكية الثورية التي تربينا عليها.
هذا الشخص الجاهل الذي يطالب أبناء حركة فتح بانتخاب حزبهم
" بالكندرة " لأنه هو الذي يدفع لهم الرواتب كل شهر ، وكأنه اشتراهم
بماله الخاص ويحق له أن يتحكم في رأيهم الشخصي وحريتهم في اختيار مرشحهم الذي يرون
فيه استحقاق للمنصب، هو نفس الجاهل الذي أطلق الهاشتاج المستفز #كيف_صارت وكأنه
يستغفل الشعب الفلسطيني في غزة من خلال قلب الحقائق والتزييف والإدعاء، وكأن هذا
الشعب لا يدري كيف كانت الحياة في غزة وكيف صارت!
هذا الجاهل وأمثاله من الجهلة الذين يمسكون ميكرفون ويخطبون في
جمهور من أبناء حركة فتح أو جمهور من أبناء حركة حماس هم المتسببون فيما آلت إليه
أوضاعنا من تردي وانحطاط في فلسطين، تعصبهم الأعمى لأحزابهم وضيق أفقهم وضعف
نظرتهم الشمولية للأوضاع المعيشية والاجتماعية والسياسية هو أحد الأسباب التي أدت
إلى الانقسام الحاصل بين أبناء الوطن الواحد، والأدهى من ذلك أن هؤلاء الجهلة من
الطرفين لهم جمهور واسع يُصفق ويٌؤمّن على كلامهم دون أن يُعمِلوا عقولهم أو
يتدبروا أمورهم .
من المحزن جدًا أن نرى هؤلاء المأجورين لإفشال المشروع الوطني
الوحدوي هم من يتصدرون المشهد الفلسطيني في الوقت الحالي بينما يقبع الشرفاء في
الظل محاطون بهؤلاء المرتزقة الذين يعملون على إحجام دورهم وتقزيمهم بكل ما أوتوا
من قوة وعنجهية خوفًا من أن يزيحوهم من فوق كراسيهم الملتصقين بها والتي يعتقدون أنهم
سوف يأخذونها معهم إلى القبر.
سوف يذهبون إلى القبر يومًا ما لكن لن تصحبهم الكراسي بل سوف تصحبهم
تلك اللعنات المختبئة في صدور هذا الشعب الذي يقاسي الأمرّين والذي ذاق على أيديهم
عذابًا وويلاتٍ أشد من عذاب وويلات الاحتلال بكثير.
أتمنى من كل قلبي أن نترفع عن هذا الانحطاط السياسي ونمارس
العملية الديمقراطية على أكمل وجه في الانتخابات سواء البلدية أو التشريعية أو
الرئاسية ونحترم إرادة واختيار الشعب دون فرض أو وصاية من أحد، وندعم الفائز بغض
النظر عن انتمائه الحزبي أو الفكري، بل ونساعده على العمل على خدمة هذا الشعب
المغلوب على أمره الواقع بين المطرقة والسندان، ولا نعمل على إفشال الطرف الفائز بوضع
المعوقات والعقبات في طريقه حتى نعاقب هذا الشعب على اختياره وكأننا نقول له:
"تستاهل لأنك لم تنتخبني !"
ولنا في حرب غزة الأولى عام 2008 عبرة وعظة عندما قام عدونا
بشن حرب شَعواء على غزة كان غالبية ضحاياها هم المدنيون من الأطفال والنساء
والشيوخ وكأنه عقابًا جماعيًا للشعب بالدرجة الأولى لأنهم تسببوا في فوز حركة حماس
بالانتخابات التشريعية في ذلك الوقت، وللأمانة رغم نتائج تلك الانتخابات الصادمة
إلا أنها كانت عرسًا فلسطينيًا ديمقراطيًا بشهادة الجميع، العدو قبل الصديق
والغريب قبل القريب، ومن المحزن ما آلت إليه الأمور بعد ذلك من تفكك وتصدع في
البيت الفلسطيني الداخلي.
وهذا ما لا نريد حدوثه بعد الانتهاء من هذه الانتخابات، فلنبقى
إخوة وشركاء مهما كانت النتائج، سواء أجاءت على هوانا أم لا، دعونا نتقبل الفوز برحابة
صدر أو نتقبل الهزيمة بروح رياضية.
يا ولاة أمورنا من الطرفين المتنازعين، أتمنى منكم أن توقفوا
هذه المهازل التي تشوه صورتنا كفلسطينيين كما أتمنى عليكم تغليب المصلحة الوطنية
الفلسطينية على مصالحكم الفئوية والحزبية، وأرجو منكم أن تحترموا اختيار الشعب ولا
تبتزوه ولا تساوموه على لقمة عيشه ولا تفرضوا وصايتكم عليه فهو تعدى سن الرشد منذ
زمن بعيد وهو قادر على التمييز بين الغث والسمين.
ارفعوا أيديكم عن هذا الشعب المسكين وكفوا عن المتاجرة بدمه
وقوته وساهموا في رفع سقف الحريات فالشعب خائف إذا ما انتقد هذا الفصيل أن تُقطع
رقبته وإذا ما انتقد ذلك الفصيل أن يُقطع راتبه.
استقيموا وترفعوا عن صغائر الأمور وارتقوا يرحمكم الله ،
ففلسطين أكبر من أحزابنا وأكبر من مشاكلنا الداخلية وأهوائنا الشخصية وعقدنا
النفسية.
***