أمي في ألف كلمة وكلمة
(2)
أمي وبشائر الرحيل ..
يا له من عنوان غريب ابدأ الكتابة به عن أمي ، هل للرحيل بشائر ؟؟ كيف وهو يحمل لنا الألم والوجع والحزن ، ولكنه كان يحمل بشرى لهذه المرأة الفاضلة التي كانت تحلم بالرحيل عن هذا العالم بكل كرامة وعزة نفس.
كنت استيقظ عليها بالليل واجدها تصلي وتدعو الله بدعاء غريب لم اسمعه من أحد غيرها ، كانت تقول / " يا رب لا تمتني إلا وغبار الأرض على قدمي ، يا رب لا تعمي لي بصير ولا ترقدني فوق حصير " ، كانت تتمنى من الله أن تموت وهي تمشي على قدميها وترى بعينيها ولا ترقد على الفراش بلا حراك ، كانت تتمنى أن لا تتسبب بأي تعب أو إرهاق لنا في مرضها والقيام على شئونها، كانت تتمنى أن تموت كما قالت : " خفيفة نظيفة "، يا لها من أمنيات لمريضة تصارع الموت وهي تعرف أن نهايتها قد اقتربت.
كانت تجلس فوق سريرها في المستشفى وتقول :" يا رب ، لا تطيلها من شدة ، فإن الموت راحة "، تصمت وتشرد بذهنها إلى السماء وتقول :
"متى اللقاء ..متى يحين الموعد !"
لقد علمت أمي بطريقة ما بأن الموعد اقترب كثيراً ، لدرجة أنه قبل وفاتها بشهر تقريباً ، كانت ترى شمس تسير في حجرتها بالمستشفى وتبتسم وتقول: "هاهي اقتربت" ، انظر إلى سقف الحجرة فلا أرى شيئاً ، لم يعد يهمها إن اتهمها البعض بالتخريف والهذيان ، فقد كانت ترى تلك الشمس في السقف وتبتسم لها لدرجة أن عيونها كانت تلمع .."هاهي .. هاهي قد عادت من جديد" وتبدأ بالإشارة إليها وتتبعها في كل أنحاء الحجرة ، كنت انظر إلى أمي واعلم بأن هناك خطبٌ ما ، ما هذه الشمس يا أمي ولماذا تريها ونحن لا نراها ؟!
كانت تلك الشمس أول إشارة من الله بقرب الرحيل ، وكأن الله يمهد لي الطريق لتقبل الفاجعة ، يريد أن يعودني على غيابها لكي امتص الصدمة لأنه يعرف تماماً ماذا تعني لي أمي وماذا يعني رحيلها بالنسبة لي وأنا الطفلة المدللة وآخر العنقود.
كنت قد تعودت أن اطلب من طفلتي ذات العامين أن تدعو الله لكي يشفي والدتي ، كنت أقول لها : " راما ، قولي يا رب اشفي تيتا أم وليد " وكانت تقولها بكل عفوية وبراءة ، حتى جاء الأسبوع الأخير في حياة أمي ، كنت اطلب منها الدعاء لها ، فتقول طفلتي : " يا رب اشفي سيدو أبو وليد " أقول لها : " لا يا ماما قولي اشفي تيتا أم وليد " فترد علي وتقول : " يا رب اشفي تيتا أم رامي " وهكذا .. يا رب اشفي ماما .. يا رب اشفي بابا .. يا رب اشفي راما .. وينعقد لسانها عن الدعاء لأمي بالشفاء ، أمسكتها ونهرتها بشدة وطلبت منها الدعاء لأمي ولكنها صمتت ولم تقل شيئاً ، وبدأت أنا بالبكاء ، لأنها كانت الإشارة الثانية لقرب رحيل أمي .
أما الإشارة الثالثة فقد كانت الساعة.. ذهبت كعادتي لزيارتها في المستشفى قبل وفاتها بيومين ، وإذا هي تخبرني بأن ساعة يدها قد توقفت عن العمل وأن والدي قد حاول إصلاحها عدة مرات ، والغريب في الأمر أنه عندما يضعها في يده تعمل بدون أي مشكلة ، ولكن بمجرد أن تضعها أمي في معصمها تتوقف ، ولقد طلبت مني إحضار ساعة من ساعاتي لها ، ووعدتها بأن احضر لها واحدة في زيارتي القادمةـ ، أثار هذا الأمر استغرابي وبشدة ، ولكني لم أفهم مغزاه إلا بعد رحيلها ، لقد كانت إشارة على قرب ساعتها.
أما الإشارة الرابعة والأخيرة فكانت قبل وفاتها بيوم ، حيث قامت بالاتصال بي وأخبرتني أنه تم نقلها من مستشفى ناصر إلى مستشفى النجار ، وأنها تريدني أن احضر لرؤيتها غداً وليس اليوم لأنها سوف تذهب إلى دارها في الغد ! أي دارٍ هذه يا أمي التي سوف تذهبين إليها في الغد ؟!
استلقيت في سريري وأنا أحلم بيوم غدٍ ، وشعرت بالحزن فجأة وبالضيق ثم غلبني النوم ، وحلمت بها ترتدي ثوباً أبيضاً وتضع على رأسها وشاحاً أبيضاً ، وترقد أيضاً على سرير أبيض في المستشفى وكانت تجلس أختي الكبرى عند رأسها وأختي الأخرى عند قدميها " مع العلم بأنهما غير متواجدتين هنا ، فأختي الكبرى تعيش في أمريكا والوسطى تعيش في مصر " ، وحضرت أنا متأخرة ، فوجدتها مبتسمة وراضية كعادتها تتبادل الضحكات مع أخواتي ، نظرت إليَّ بعطف واشتياق وقالت لي هل احضرتي الساعة معك ، فأخبرتها بأني نسيتها وسوف احضرها غدا ، فقالت لي مبتسمة " حسناً " .. وبدأت أمي بالدعاء لنا وطلبت مني أن انتبه لنفسي .. وكأنه وداع.
استيقظت من حلمي على صوت الهاتف .. حيث طلب مني أخي الحضور حالاً لأن أمي مريضة جداً .. سألته عنها فلم يخبرني بشي ء ، بحثت بسرعة عن الساعات واحترت في اختيار الساعة المناسبة فأخذتهم جميعاً ووضعتهم في حقيبتي وغادرت أطارد الزمن للوصول بسرعة للمستشفى .
وفكرت هل أذهب لرؤيتها في البداية أم اذهب لوضع بطاريات في الساعات ، فقررت الذهاب لها في المستشفى حيث شعرت من مكالمة أخي بأن هناك خطبٌ ما.
وصلت المستشفى وتفاجأت من المشهد ، الكل يبكي وأمي في رمقها الأخير .. وسألتني - وجهاز الاكسجين على أنفها : " لماذا تأخرت في الحضور ؟" ، أخبرتها أني حضرت بسرعة ولم اتأخر ، فقط مسافة الطريق .. أمسكت بيدها وبدأت في البكاء .. لم احتمل فكرة فراقها للأبد .. لم تتوقف دموعي للحظة واحدة ، اختنقت بعبراتي وتأوهاتي ، أسرع الأطباء لأخذها إلى غرفة غسيل الكلى وبصعوبة بالغة تركت يدي وصوتها يرن في أذني " ديري بالك على حالك يا امتياز " كانت أخر كلماتها ، وما هي إلا دقائق وخرج الطبيب ليعلن عن رحيلها ، رحيل من كانت نور عيني ومهجة فؤادي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء الأول / الألم الذي ينتظر الجميع.
**************