مر عامان على حرب غزة ولكن ماذا تبقى لنا في الذاكرة منها ، ذهبت تلك الأيام بحلوها ومرها ، ذهبت ومازال شبح الحرب القادمة يطاردنا في كل لحظة بل في كل ثانية.
حاولت منذ صباح اليوم استرجاع ولو القليل من تلك الذكريات المؤلمة ، فلقد كانت حرب غزة ، والتي بدأت في صبيحة يوم 27 ديسمبر 2008 ، أول حرب أعايشها عن قرب ، لقد جربت من قبل الاجتياحات والقصف والتوغل ، لكن حرب بهذا الحجم وبهذا الدمار ، لم أواجه مثله من قبل ، وكأن إسرائيل صبت جم غضبها وسخطها علينا.
بدأت بالقصف الجوي من طائرات اف 16 واستهدفت في بادئ الأمر المقرات الأمنية ومراكز الشرطة ، واستشهد العديد من أبنائنا تجاوز عددهم الـ 300 شهيد ، ثم أتبع ذلك قصف لبعض الجامعات والمدارس والوزارات ، ثم بدأ في قصف المنازل والأبراج السكنية ، وأخيراً انتهى بقصف الأنفاق بين غزة ومصر ، ليبدأ فيما بعد مرحلة العملية البرية والتوغل من عدة محاور في قطاع غزة ، وكان نصيب الأسد من التوغل حي تل الهوا في مدينة غزة بالإضافة إلى المنطقة الشرقية من مدينة خان يونس ورفح وشرق غزة وبيت حانون.
أصعب ما واجهني في تلك الحرب ، هو عجزي عن حماية طفلتي الصغيرة والتي أكملت عامها الأول في ذلك الوقت، لم أكن قادرة على إجابة آلاف الأسئلة التي كانت تجول في خاطرها ويعجز لسانها عن النطق بها ، كلما أسمع صوت القصف ابتسم وأقول لها بسعادة مفتعلة : " انظري أنها طائرة ، أنها ألعاب في السماء !!" وكانت تبتسم على استحياء وهي تحاول أن تصدق بأن هذه فعلاً أصوات ألعاب في السماء.
ولكن ألعاب السماء استمرت ولمدة ليست قصيرة، إلى أن جاء يوم وخرجنا من البيت من شدة القصف ، كنا خائفين أن يقع البيت فوق رؤوسنا ، فخرجنا كغيرنا إلى الشارع ، ووقفنا ننظر إلى السماء والتي كانت تمطر صواريخ تعرف وجهتها تماماً وهي منطقة الأنفاق ، الكل يحمل أطفاله ولا يعرف أين يذهب بهم ، فلا مكان آمن في غزة ، لأول مرة رأتْ طفلتي بعض الأطفال يبكون ويصرخون ولا يدرون أين يذهبون ، صراخهم اختلط بصراخ أمهاتهم لدرجة أني لم أعد اسمع صوت الصواريخ ، أدركتْ ابنتي أن هذه الأصوات ليست ألعاب ولكنها شيءٌ أخر ، وقامت بإخفاء رأسها في صدري دون أن تبكي ، لا اعلم هل كانت مشفقة عليّ أم كانت معاتبةً لي بسبب إخفائي للحقيقة عنها !!
بدأت طائرات العدو الصهيوني بإلقاء المنشورات علينا تطلب منا إخلاء بيوتنا لرغبتها في قصف المنطقة ، كما استخدمت قوات الاحتلال لأول مرة الهاتف حيث بدأت بالاتصال بالمواطنين لتحذيرهم والطلب منهم مغادرة المكان حفاظاً على حياتهم ، والتوجه إلى أماكن أكثر أمناً (!) ولكن أيوجد مكان آمن في غزة ؟؟ إن الموت يطاردنا من شارع لشارع، ومن بيت إلى بيت، ومن حارة إلى حارة ، ومن مدينة إلى أخرى.
بدأت رحلة البحث عن ملاذ آمن، ولكن أين نذهب ؟! لا يوجد مكان ولا أمان .. على الرغم من ذلك اكتشفت في هذه الحرب أنه مازال لدينا قلوب ، على الرغم من غلظتها ، تحن وتخشع ، بدأت العائلات الغزية تلتف حول بعضها البعض ، تستقبل من قُصف بيته ، وترسل بالماء والحليب والطعام إلى من يحتاجه ، وتأوي من فقد عائلته ، تساعد في عملية إنقاذ وإسعاف الجرحى والمصابين ، وتبحث بين الأنقاض عن الجثث وتقوم بدفنها، هذا ما جعل لتلك الأيام حلوها ومرها .
إن الحرب لها وجهٌ قبيح بشع شأنها شأن باقي الحروب في الدنيا كلها على مر العصور ، لا تفرق بين مقاتل ومواطن ، بين رجل وامرأة ، بين طفل وشاب ، لقد هالني رؤية أشلاء الأطفال وهي مبعثرة هنا وهناك ، عائلات بأكملها دفنت تحت أنقاض منزلها وبقيت هناك لا أحد يعلم عنهم شيئاً ، بدأنا نسمع القصص الغريبة والحزينة والتي لا تسمعها كل يوم ، تلك الأم التي لفظت أنفاسها الأخيرة في حضن ابنها والذي لم يستطع فعل شيء لإنقاذها، وذلك الرجل الذي حمل طفله الرضيع وأخذ يجوب الطرقات بحثاً عن إسعاف لإنقاذ ما تبقى منه ! وذلك المقاوم الذي بدأ ينزف منذ أكثر من يومين ليستشهد فيما بعد ،وقصة معتقلي سجن السرايا ، وتلك المرأة التي شهدت مصرع أبنائها جميعهم أمام عينها ، وتلك المرأة .. وذلك الرجل .. وتلك .. وذاك .
قصصٌ عن الموت بالجملة ، قصصٌ مخيفة تحاول أن تسد ذاكرتك قبل أذنك لكي لا تسمعها ولا تحفظها .
لم ينتصر أحد في هذه الحرب لا إسرائيل ولا حكومة غزة ، فإسرائيل لم توجه الضربة إلى فصيل معين ، بل وجهتها لشعب غزة عقاباً وتأديباً له على اختيارٍ قام به .
هذه هي غزة ، وتلك حربها، وهذه ذكرياتنا عنها..
حربٌ أسمتها إسرائيل عملية الرصاص المسكوب ، وأسمتها حكومة غزة معركة الفرقان ، وسميتها أنا حرب الخسران المبين ، خسرنا فيها خيرة شبابنا ، خسرنا فيها أطفالنا وبيوتنا ، كرامتنا وإنسانيتنا ، خسرنا كل شيء ، ولم يبقى لنا إلا البكاء على من رحلوا ، وذكريات تنكأ جراحنا التي تأبى أن تلتئم ، وانتظار مجهول يتربص بنا بين الحين والأخر.