الخميس، 14 فبراير 2013

ثقل الذكريات




ثقل الذكريات

مرة بعد مرة  تضبط نفسها متلبسة بالذكريات ..لا .. بل بتفاصيل الذكريات .. تفاصيل بلغت من العمر خمسة وعشرون عاماً هي عمر ابنها " نور الدين " الذي اختار حضن الأرض عن حضنها ، اختار ضمة تراب الوطن عن ضمة صدرها.

رحل من دوخ جنود الاحتلال وأعياهم ، رحل من اشترى الآخرة بالدنيا ، رحل من باع رغد العيش بشظفه ،  رحل ذلك ( الرجل ) بعد أن خلد صورته في ذاكرة الجميع كـ فارس وبطل .. لكنه رغم ذلك يبقى في ذاكرتها ذلك الطفل الذي يرفض أن يرتدي البنطال بمساعدة أحد ، ذلك الطفل الذي يفضل البَرَّد بطعم المانجا عن طعم الليمون ، ذلك الطفل الذي لا يغسل أسنانه قبل النوم بل بعد استيقاظه منه ، ذلك الطفل الذي يحب الشوكولاته بطعم الفراولة ولا يحبها بطعم جوز الهند ، ذلك الطفل الذي يصر على الاستماع إلى سورة يس بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد ليلاً قبل أن يخلد إلى النوم .

أفيقي يا منال ، الذكريات لا تعيد الغائب بل تزيد من لوعة غيابه ، لقد رحل نور الدين ولن يعود ، حتى لو ملئتِ الدنيا صراخاً لن يعود ، حتى لو بكيتِ بدلاً من الدموع دماً لن يعود ، حتى لو صليتِ أبد الدهر لن يعود ، لن يعود ذلك الشقي الذي ما انفك يشاكسكِ أثناء طهوكِ للطعام ، لن يعود ذلك الولد الذي يلعب بالكرة داخل المنزل ، لن يعود من كان يوقظكِ وهو يطبع آلاف القبلات على جبينكِ كل صباح .. لن يعود من كان يغضبكِ صباحاً ويتوسد ركبتيكِ مساءاً .

ماذا أفعل بأشيائه الصغيرة ؟ ماذا أفعل بكل الأشياء التي احتفظتُ بها كي أريها لأبنائه .. ثوبه الأزرق التركوازي ، أقمطته البيضاء ، سيارته الحمراء الصغيرة ، حذائه الكُحلي ؟!

ماذا أفعل بصوره القديمة مع أصدقائه في رحلاته المدرسية ، ماذا أفعل بألعابه ؟ مضرب التنس ، كرة القدم ، دراجته ، ماذا أفعل بدفتر مذكراته ؟ ماذا أفعل برسوماته .. بدفاتر رسمه وأقلام تلوينه ، ماذا أفعل بكتاب الكيمياء الذي احتفظ به دون إبداء أسباب ؟ ماذا أفعل بملابسه الشتوية المخبئة بالحقيبة أعلى الخزانة ؟ ماذا أفعل بجلابيته وطاقيته ومصليته وقرآنه ؟ ماذا أفعل بتفاصيله الدقيقة .. ماذا أفعل ..؟؟! ماذا أفعل بالكم الهائل من ذكرياتي معه ؟

لماذا رحل مخلفاً ورائه أشياؤه وتفاصيله.. لماذا لم يأخذها معه ؟ لماذا تركها خلفه .. هل لتزيد من لوعتي .. لتزيد من وجعي ؟! .. فما أشياؤه وتفاصيله الصغيرة سوى خناجر مغروسة في خاصرتي !

رفقاً بي أيتها الذاكرة .. فأنا لم أعد احتمل أكثر من ذلك .. آن الأوان لأفقد تلك الذاكرة اللعينة التي تحتفظ بكل التفاصيل .. وتعيدها على مسمعي وتكررها برتابة وبدون كلل أو ملل .. تلك الذاكرة التي ترتكب في حقي أكبر جريمة .. تلك الذاكرة التي تأبى أن تُصاب بالخرف والهرم .. تلك الذاكرة التي تخونني بكل وقاحة وبدون شعور بالذنب أو حتى تأنيب ضمير !

هَدتني الذاكرة وأرهقتني التفاصيل ..فـ يا لثقل الذكريات ، وضيق سقف السماء ..


****

هناك 7 تعليقات:

  1. قدمنا الكيير
    وما زال أمامنا الكثير لنقدمه
    حتى نتحرر

    تحياتى دوما

    ردحذف
  2. للأسف لن تمحو ذاكرته لأن تفاصيل أبنها مدفونة في أعماق قلبها رغم إنها مطفونة إلا إنها حية بروحه التي تحوطها ليلاً ونهاراً، ولعل تفاصيله كما ترهقها تكون أيضاً مسكناً قليلاً يسكن لها آلامها.. لعل يحدث ذلك!

    أعجبني اسلوبك ووصفك بشدة. وخصوصاً سردك لتفاصيلة الصغيرة مع أمه:)

    ردحذف
  3. يرحلون ويتركون لنا الذكريات
    تؤرقنا ولا نتركها تبعد عنا
    نحن نجلبها بأنفسنا او هى من يتشبث بنا

    كثير من الؤرقات فى حياتنا وان اختلفت



    دمت بخير زينه

    ردحذف
  4. من الأشياء التى يتميز بها الإنسان عن بقية المخلوقات هى الذكريات
    والتى كثيراً ماتكون محركاً دافعاً للأمام عندما نعى كيف نتعايش معها
    ونحولها إلى طاقة وقدرة ......

    تحياتى وتقديرى لك سيدتى
    وبارك الله فيك وأعزك

    ردحذف
  5. الصورة رائعه

    وطبعا التدوينه اكثر من رائعه
    كلنا شايلين الذكريات فعلا علي ضهرنا شجرة ضاربه جدذورها من الظهر حتي الاضلع

    ردحذف
  6. صباح الغاردينيا آمتياز
    من منا يملك ذاكرة خالية من الماضي
    ممن رحلو! وممن غابوا !
    تبقى عطور ذكرياهم مهما غابت وجوههم
    ويبقى ثقل الحنين مهما حاولنا النسيان
    "
    ؛؛
    ؛
    لروحك عبق الغاردينيا
    كانت هنا
    Reemaas❤

    ردحذف
  7. أسعدني تواجدكم هنا ..

    شكرا لمروركم العطر بين صفحات مدونتي المتواضعة ..

    واعذروني لقلة الزيارة ..

    كونوا بخير أيها الأعزاء ..

    ردحذف