السبت، 24 أغسطس 2013

جدتي غزال



# حوليات

(55)

جدتي غزال

رحلت جدتي لأبي عن عمر تجاوز المائة عام بقليل ولم يبق في ذاكرتي إلا صورتها وهي ترقد على فراش الخرف والشيخوخة وقد تقلص حجمها كثيراً وباتت صغيرة بحجم طفلة في المرحلة الإعدادية .

كنت اجلس أنا وأختي بجوار أمي وهي تمشط لجدتي شعرها وتعمل لها ضفيرتين، كانت أمي تشاكسها أحياناً وهي ترد على أمي بالألفاظ النابية التي لا نفهمها لا أنا ولا أختي، وكانت أمي تضحك وتزيد من مشاكستها، كما كانت تطلب من جدتي أن تغني لها بعض الأهازيج الفلسطينية الشعبية القديمة، وكان هذا الشيء يسعد جدتي كثيرًا حيث كانت تشرع بالغناء بصوت عالٍ وجميل دون أن تنسى أي مقطع من تلك الأهازيج والتي لفرط دهشتي مازالت تحفظها رغم أنها تنسى اسمها وأسماء أبنائها وأحفادها، حتى أنها في كل مرة تسأل أمي: من أنتِ ؟؟

لم تعش جدتي في بيتنا كثيرًا، إلا في أواخر أيامها حيث كان يتم استضافتها لمدة شهر كل أربعة شهور حيث تنتقل لبيت أحد أعمامي تمكث عندهم شهر ثم تغادر لبيت الآخر وهكذا.

اذكر ذات مرة، عندما كانت في بيتنا، أنها طلبت مني كوبًا من الماء، أسرعت إلى المطبخ وأحضرت لها طلبها، فإذا هي تصرخ بي، تلقي الكوب من يديها وتقول:

-   " ما هذا؟ هل تضحكين عليَّ ؟ أنا لا أريد ماءاً انتيكا، أريد ماءاً ملوناً !!"

نظرتُ إليها باستغراب فأنا لا اعرف ما هو الماء الملون التي تطلبه، أبلغتُ أمي والتي ضحكتْ بدورها وقالت لي :  

-   " إنها تريد كوباً من العصير ! "

كانت أمي تفهم جدتي جيداً، تفهم طريقة كلامها الغريبة، وتفهمها أحياناً من صمتها، كانت أمي تشعر بالآخرين بصورة عجيبة، كانت تفهمهم " على الطائر". 

رحلت جدتي ولم يبقى عالقًا في ذاكرتي منها إلا قولها :" أريد ماءاً ملوناً ".

لم نتمكن من حضور جنازتها عندما توفت أو حتى المشاركة في بيت العزاء وذلك لأنه حينما وافتها المنية كانت في بيت عمي الذي يسكن في منطقة المواصي على شاطئ بحر رفح وكانت منطقة عسكرية مغلقة يمنع دخولها إلا لقاطنيها أو لمن لديهم تصاريح خاصة بالدخول.

ورغم أن جدتي لم يكن لديها شهادة ميلاد أصلية أو حتى صحيحة شأنها شأن غالبية الشعب الفلسطيني الذي ولد في أوائل القرن العشرين، حيث لم يكن من المعتاد تسجيل حالات الولادة في الدفاتر الرسمية، إلا أنني احفظ تاريخ وفاتها جيداً وذلك لأنها توفت في نفس اليوم الذي استشهد فيه البطل المناضل يحيى عياش، اذكر أنه كان يوم الخميس وأن السماء قد أمطرت !

*****

هناك 4 تعليقات:

  1. فليرحمها الله هي وأمي وكل موتى المسلمين

    هذا هو قدر شعبنا الفلسطيني أن يولد غريبا ويعيش غريبا ويموت غريبا وهو في أرضه

    تحياتي

    ردحذف
  2. تأثرت بكل حرف خط هنا

    لجدتي صورة مشابهة لجدتك في العمر والشكل
    إلا أنها حتى آخر لحظة من عمرها الست والتسعون كانت تعي كل شيء
    وتسترجع كل اللحظات وكل الجراح
    وكانت تحلم بان تعود يوما
    توفت منذ ثمانية أشهر وتركتنا خلفها نستذكر الأوجاع
    ونبكي بعيوننا أدمعها التي لم تدرفها

    دوما لك لمسات خاصة
    ولكلماتك عندي وقع لا أستطيع تجاهله

    تحيتي

    ردحذف
  3. اختى العزيزة
    شجن البنفسج

    هههههههههههههههههههه
    تصدقى انا ابتسمت و افتكرت جدتى الله يرحمها
    دولا البركة
    دولا شهود التاريخ
    الله يرحم جدتك و يرحم والدتك بمقدار برها بامخا

    متابعك و الله العظيم لكن مش ملاحق على التعليق

    تحياتى

    ردحذف
  4. سعيدة بمروركم العطر .. وربنا يرحم أمهاتنا وجداتنا .. هم فعلا بركة الدار ..

    ردحذف