الأحد، 9 مارس 2014

فريسة


# حوليات
(252)
فريسة

سارت ببطء شديد وتكاسل .. اليوم هو أول يوم لها في الجامعة بعد انتهاء إجازة العيد .. سوف تحمل كتبها من جديد وتتوجه إلى المدرجات لتكمل فصلها الدراسي الطويل والممل .. قابلت في طريقها صديقتها أمل والتي قابلتها بابتسامة عريضة وساخرة ..

(كالعادة .. كسل وتثاؤب في صباح كل يوم .. ألم تشبعي من النوم ؟)

قبلتها على وجنتيها واستدركت قائلة :
(ما بالك ؟ لما هذه التكشيرة وكل هذا التجهم ؟)

(لستُ على ما يرام .. دعينا نذهب لاحتساء النسكافيه قبل بدء المحاضرة الأولى) .

اعتادت مُنى أن ترافق صديقتها أمل صباح كل يوم لشرب النسكافيه في كافتيريا الجامعة .. تجلسان لبضع دقائق .. تتحدثان عن أحداث الأمس ورواية كانت قد استلفتها منها .. وبعض الأحاديث الجانبية العابرة .. موال كل يوم !

كان صباح اليوم مختلفاً .. لأن منى تشعر بالاكتئاب والملل من الجامعة وكانت تتمنى أن تطول إجازة العيد وتمتد إلى شهرين على الأقل.

لم ترغب بالعودة إلى الجامعة ولكن يتوجب عليها ذلك فهذه هي سنتها الأخيرة وهي على وشك الانتهاء منها .. مشكلة منى أنها لا تحب الجامعة ولا الدراسة ورغم ذلك لا تريد أن تنهي دراستها وتجلس في البيت .. فهذا هو السيناريو المتوقع لكل خريج جامعة طالما ليس له واسطة يستطيع من خلالها أن يشغل وظيفة حكومية أو حتى خاصة .

تنظر منى حولها وترى مئات الطلبة يتجولون بحرم الجامعة .. بعضهم يتحدث والآخر يضحك .. ومنهم من هو متجهم مثلها .. ومنهم من لا يهتم إلا بمعاكسة الطالبات وإلقاء النكات .. ومنهم من يسرع للحاق بمحاضرته .. وآخر يعلق ملصق كبير على أحد الجدران يبدو أنه لأحد الشهداء ..

( لا شيء جديد ) , قالتها منى وأتبعتها بتنهيدة طويلة ونظرات تائهة حزينة .

(وما هو الجديد الذي ترغبين به ؟) , تساءلت أمل .

(شيء يخرجني من حالة الاكتئاب التي أنا بها ..)

(امم .. شيء جديد .. ما رأيك لو نشرب اليوم كابتشينو بدلاً من النسكافيه ؟؟)

(هل هذا هو جديدك ؟؟ شكراً على المساعدة) , قالتها منى بنوع من الاستهزاء.

تحاول منى استرجاع بداية اكتئابها ولكنها لا تعلم .. كل ما يحيط بها يدعوها للاكتئاب ..الحواجز الإسرائيلية ومضايقة جنود الاحتلال لهم .. القصف المستمر والاغتيالات .. الاجتياحات والتوغلات الليلية .. وأصوات المدافع والزنانات .. وأخيراً استشهاد جارهم الدكتور الجامعي هو وزوجته وأطفاله الخمسة بعد محاولة فاشلة لطائرات اف 16 في اغتيال قائد المقاومة الشهير والذي قيل أنه كان مختبئاً في منزل ذلك الدكتور .. وكيف شعرت ليلتها بأن زلزالاً شديداً قد هزها من الداخل حتى كاد البيت يقع على رؤوسهم من شدة القصف , وكيف أن نوافذ البيت الزجاجية قد تكسرت جميعها .

كل ما يحيط بها قد حاك مؤامرة هذه المرة من جميع الاتجاهات لتسقط فريسة سهلة للاكتئاب .

رغم أن صديقتها أمل وغيرها كثيرون يعيشون حياتهم بشكل عادي ويتعاملون مع الواقع بشكل صحي وطبيعي ، ولكنها لا تستطيع ذلك .. لا تستطيع أن تتكيف مع واقع فُرض عليها منذ أن أبصرت النور في هذه الدنيا ..

الشيء الوحيد الذي كان يدخل الابتسامة لقلبها هو رؤية ذلك الفتى الطالب في سنة أولى والذي يعمل في أوقات فراغه في كافتيريا الجامعة .. كان طفولياً لأبعد حد .. ملامح وجهه وعيونه الزرقاء وقامته القصيرة تعطيك انطباعاً بأنه طالب في المرحلة الإعدادية !!

كان يقابلها هي وصديقتها بابتسامة طفولية ودودة وإذا لمحهما في آخر الرواق .. يقوم بتجهيز طلبهما قبل أن تصلاه .. كوبين من النسكافيه مع القليل من السكر .. لم يتبادلا الكلام أبداً .. تضع منى له ثمن الكوبين وتنصرف هي وصديقتها بهدوء .. وهكذا على هذا الحال منذ بداية هذه السنة الدراسية ..

لاحظت منى ذات مرة وجود شيء صغير في كوبها .. قطعة صغيرة تكاد لا ترى بالعين لونها أخضر على ما يبدو أنها قطعة بقدونس صغيرة .. ربما سقطت سهواً من يده أثناء إعداد ساندويتشات الفول والفلافل .. تجاهلت الأمر في البداية ولكنه تكرر عدة مرات وفي النهاية قررت أن تواجهه .. وكان ذلك قبل بدء إجازة العيد .. حيث قالت له :

(كوبين نسكافيه سكر خفيف بدون سلطات !!)

ضحكا على الموقف واعتذر بشدة على ما بدر منه ووعدها بعدم تكرار ما حدث أبداً ..

..

ابتسمت منى ولمعت عيونها وكأن الأمل بدأ بالانبعاث في قلبها من جديد ..شدت صديقتها وقالت:

(هيا بنا .. لنذهب ونشرب النسكافيه).

أكملتا طريقهما نحو الكافتيريا .. ومن آخر الرواق لم ترى ذلك الفتى في مكانه.. سوف تبحث عنه وتخبره بطلبها المعتاد .. كوبين نسكافيه سكر خفيف بدون سلطات !!

لم تجده في أي مكان .. عجزت عن رؤيته .. وقررت أن تسأل عنه رغم عدم معرفتها باسمه .. تراجعت في آخر لحظة .. أخذت كوبها وأعطت صديقتها الكوب الآخر وغادرتا إلى مكانهما المفضل .. وإذا بها تلمح صورته في ذلك الملصق .. سارت نحو الجدار وقرأت اسمه ..

(مستحيل .. يبدو أنها دعابة سخيفة من أحدهم ..)

أسرعت منى وأمل نحو الكافتيريا .. وصفته للرجل الأخر الذي يعمل هناك .. سألته عنه .. صمت الرجل ولمعت الدموع في عينيه وقال :

(لقد استشهد رامي أول أيام العيد أثناء اجتياح القوات الإسرائيلية لمخيم البريج..)

ساد صمتٌ مطبق .. ربتت أمل على كتف صديقتها وسحبتها بهدوء .. يبدو أن كل ما يحيط بها قد حاك مؤامرة هذه المرة من جميع الاتجاهات لتسقط منى فريسة سهلة للاكتئاب .

______________

·        قصة قصيرة من كتاب " حد الوجع ".
******



هناك تعليقان (2):

  1. في بدايتها توقعتها قصة مصرية فالحال غالب
    وبعد ظهور كونها من غزة قلت لا حول ولا قوة إلا بالله فالدول العربية تتشابه كثيرا وخاصة في وجود واسطة للحاق بوظيفة مضمونة
    في منتصفها "بقيت أقول أكيد دي إعادة نشر ثم حينما ظهر طالب سنة أولى نزلت لآخر الصفحة لأتأكد من كونها قصة من كتاب حد الوجع"
    هذا يدل على أن قلمك استطاع أن يطبع في ذاكرتي حد أن أتذكره بعد قراءتي للكتاب بفترة ليست قصيرة

    دمتِ بخير

    ردحذف
  2. كلامك هذا أسعدني وبشدة ، وإن شاء الله الرواية الجديدة تعجبك كمان .

    ردحذف