الخميس، 10 أكتوبر 2013

اغتيال طفولة


# حوليات
(102)
اغتيال طفولة

انتظمتْ الأصوات وعلتْ ، وكأننا جوقةٌ موسيقية ، أخذنا نقرأ الدرس ونعيده مراتٍ ومرات ، أحيانًا بصوتٍ رخيم وأحيانًا بنشازٍ واضح ، لكن كنا سعداء ، ندق على الطاولات بنغمٍ متسق ، فتهتز أجسادنا الصغيرة ، ونتبادل نظرات مُشوبة بالفرح وضحكات مكتومة خَجِلة.

كانت الخطوط على السبورة الخضراء والتي تركتها أصابع الطباشير الملون تعكس على مرايلنا الخضراء ، أيضًا ، ألوان قوس قزح في الصباح النادي.

وكان الأستاذ يحيى يذرع الفصل جيئةً وذهابًا ، يُمسك بيده المؤشر ، ويطالبنا بمزيد من النشاط ، يضحك ويقول :" أريد أن يسمع الناظر أصواتكم من هنا ". نتحمس وتعلو حناجرنا بالصراخ المختلط بضحكات طفولية لم تأنس بعد هنَّات الدهر ، قلوبٌ مفعمة بالحياة والحب النقي والطهر اللامحدود .

فجأة توقف كل شيء ، اخترقت آذاننا أصواتُ طلقاتٍ ناريةٍ متتالية ، فزِعنا ، لكننا التزمنا الصمت ، لعلنا ندرك ما يحدث ، طلب مني أستاذ يحيى بصفتي عريفة الصف أن أغلق الباب علينا وأن لا اسمح لأحد من التلاميذ بالخروج من الفصل حتى يذهب ليستعلم عن الأمر.

وهكذا فعلت ، طلبت من زملائي أن نستغل الوقت بكتابة الدرس في دفاترنا حتى يعود الأستاذ من الخارج ليطمئننا ونستكمل درسنا كالعادة.

تُرى ما الذي حدث ويحدث خارج الفصل ؟! أخذتُ أفكر بذلك بينما كنتُ أمشي بين صفوف التلاميذ ، لأتأكد بأنهم يكتبون في دفاترهم.

تقع مدرسة عباس محمود العقاد الإعدادية المشتركة في منطقة نائية على أطراف منطقة خربة العدس والتي تشتهر بالهدوء النسبي لو قارنا بينها وبين باقي مناطق مدينة رفح التي تشهد تصاعد في المواجهات مع جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ بدء انتفاضة الحجارة قبل عامين.

أكثر ما يميز منطقة خربة العدس ، أنها بعيدة عن مركز المدينة المُشتعل بأحداث الانتفاضة اليومية ، من اضطرابات ومظاهرات ومسيرات ، بعيدة عن الجنود والجيبات العسكرية الإسرائيلية التي تلاحق مُلقي الحجارة ، وما يتبع ذلك من إطلاق الرصاص الحي والمطاطي وإلقاء قنابل الغاز المُسيل للدموع.

كانت مدرستنا تضم طلبة المرحلة الابتدائية والإعدادية وتجمع بين صفوفها كلا الجنسين ، وعندما يُنهي الطلبة دراستهم الإعدادية ينتقلون للدراسة في مدارس المدينة ، وهناك بعض الأهالي الذين اكتفوا بالتعليم الإعدادي لأبنائهم بهدف إبعادهم عن المناطق الساخنة بالأحداث في قلب المدينة.

مبنى المدرسة على شكل مكعب فارغ من الداخل تقع حجرة الناظر في الطابق الأرضي تقابلها حجرة المعلمين ويفصل بينها وبين حجرة المعلمات ممرٌ طويل ، وفي الوسط كان هناك ساحة مرصوفة صغيرة وكانت فصول طلاب المرحلة الإعدادية في الطابق الأرضي بينما فصول المرحلة الابتدائية في الطابق الأول ، وكان هناك درجين ، إحداهما داخلي يفضي إلى حجرات الإدارة وإلى الحديقة وهو خاص بالمعلمين والمعلمات بينما الدرج الأخر كان خارجي يفضي إلى ساحة ترابية شاسعة ، وكان مخصص للتلاميذ.

بعد انتهاء الطابور الصباحي الذي يخلو من الإذاعة المدرسية والسلام الوطني وذلك بقرار من جيش الاحتلال ، يتوجه الطلبة إلى فصولهم عبر الدرج الخلفي الخاص بهم ويستعملونه أثناء خروجهم إلى الفُسحة والتي نطلق عليها كلمة " الفُرْصَة " أو عودتهم منها ، وبعد انتهاء الدوام نهبط منه للعودة لمنازلنا. 

كنتُ في الصف الثالث الابتدائي آنذاك ، وقد كان فصلنا يقع في الطابق الأول وهو بالقرب من الدرج الداخلي.

عاد أستاذ يحيى من الخارج وكان على قميصه بقع دم حمراء ، أزاح خصلة من شعره التي غطت وجهه وقال لنا بصوتٍ متهدج : " اذهبوا إلى بيوتكم " ، وطلب مني أن احرص على مغادرة التلاميذ من الدرج الخلفي وعدم السماح لأحد منهم باستعمال الدرج الداخلي. وقد فعلتُ ما أمرني به ، وقفت على باب الفصل ورتبت خروج زملائي في طابور طويل ، يمسك كل تلميذ بيد زميله وبانتظام غادروا الفصل عن طريق الدرج الخلفي ، وهكذا فعل باقي تلاميذ الفصول الأخرى ، وعندما جاء موعد مغادرتي وقفت حائرة ، ما الذي حدث بالأسفل ، ولماذا أصر الأستاذ على مغادرتنا من الدرج الخلفي ، ولأني فضولية بطبعي ، لم أغادر مثل باقي التلاميذ ، توجهت ببطء شديد نحو الدرج ، كنتُ خائفة أن يراني أحد الأساتذة وينهرني ، لكني لم أرى أحداً ، واصلت سيري وهبطت الدرج وعندما وصلت للأسفل ، رأيتُ فراش مدرستنا ، الرجل كبير السن ، ضعيف البُنية ، ذو الوجه الحليق إلا من شارب " هتلر " ، وصاحب الكوفية البيضاء والعقال الأسود ، رأيته مُلقى في منتصف الردهة التي تفصل بين حجرة الناظر وحجرة المعلمين. كان غارقًا في دمائه.

كانت بقعة دماء حمراء قانية تحيط برأسه وتتسع وتكبر ببطء شديد ، وقفتُ مذهولة ، غير مصدقة لما أراه ، تسمرت قدماي ولم أعد قادرة على إبعاد نظري عن الجثة المُلقاة هناك ، كنتُ أقف قريبةً منها بصورةٍ غريبة ، كانت أول مرة في حياتي أرى شخصًا ميتًا ، لا ، بل شخصًا مقتولاً.

كنتُ في التاسعة من عمري ، لم اختبر موقف مثل هذا من قبل ، لا أنا ولا مئات التلاميذ من جيلي ، لم أرى في حياتي شخصًا ميتًا ، كنتُ اسمع من أمي أنها ذاهبة لبيت عزاء فلان ، لماذا ؟ لأنه توفى ، وماذا يعني " توفى ". يعني أنه مات. هذه هي كل معلوماتي عن الموت في ذلك العمر.

كانت صدمة قاسية ومؤلمة بالنسبة لي ، عجزت عن الحركة ، والغريب أن الناظر والمعلمين كانوا يقفون في نفس الردهة معي إلا أن أحداً منهم لم ينتبه لوجودي ، فالمُصاب جلل ، كانوا غير مُصدقين مثلي ما حدث ، سمعت الأصوات تصرخ من حولي ، الكل يسأل ماذا حدث وكيف حدث ولماذا حدث ؟! ولا أحد يجيب ، أسئلة بلا أجوبة وصراخ بلا توقف.

أمسكتْ بي يدٌ من الخلف ، اعتقد أنها أمسكتني من ياقة مريولي المدرسي ، انتزعتني كمن ينتزع شجرة من جذورها ، كانت الأرض تلتصق بقدمي ، لا تريدني أن اتركها ، ربما كانت خائفة مثلي!

أمسكتْ أختي التي تكبرني بعامين يدي وأخرجتني من المدرسة ، لقد بحثتْ عني في كل مكان ولم تجدني ، فتوقعتْ أني استعملتُ الدرج الداخلي ، ولم يكن توقعها خائبًا. ضغطت على يدي بشدة ومشينا مع باقي التلاميذ. لم نتحدث ، لكني كنت أرى تلاميذ الصف الأول يمشون معنا ويبكون ، وقد بالوا على أنفسهم من الخوف.

وصلنا البيت ، وارتميت في حضن أمي وبكيت ، أخبرتها أختي بما حدث في المدرسة ، وأنها وجدتني متسمرة أمام جثة الفراش.

احتضنتني أمي وربتت على ظهري ، تحدثت معي كثيراً ، لكني لم انتبه لكلماتها ، كانت صورة الفراش وبحيرة الدم التي تفجرت من رأسه ماثلة أمام عيني المفتوحة ، أحاول الهرب من تلك الصورة وأغمض عيني فتتمثل أمامي صورته مُتكِئًا على باب حجرة الناظر بسرواله الأسود وسترته الصوفية الداكنة ، وعلى رأسه عقاله وكوفيته البيضاء كما رأيته بالضبط في الصباح قبل مقتله ، وذلك عندما أرسلني الأستاذ إليه لأحضر من عنده بعضًا من الطباشير الملون ، اذكر أنه دلف إلى الحجرة وعاد وبيده الطباشير وعلى وجهه ابتسامته المُعتادة.

سرتْ الإشاعات في المنطقة بأن الفراش كان عميلاً للعدو الإسرائيلي ولذلك تم اغتياله ، وقد اغُتيل في المدرسة ليكون عبرةً لغيره ، حتى لا يحذو أحد حذوه ، هل كانوا يقصدوننا نحن التلاميذ الصغار بكلمة " غيره " ؟!

قلت لأمي بعد يومين أنني لن أذهب مجدداً لتلك المدرسة بعد ما رأيته هناك ، ولم تعترض.

كنتُ أروي لأمي مشهد الاغتيال وكأني رأيته بأم عيني ، أقول لها بأن القاتل لم يكن مُلثمًا ، وكان ذو بشرة سمراء ، يشبه الهنود ، وكان يحملُ بيده مسدسًا صغير الحجمِ ، كان يقف في منتصف الممر الضيق المؤدي إلى الباب الخاص بدخول وخروج المعلمين من وإلى المدرسة ، وأخذ يطلق النار على الفراش المسكين الذي حاول الفرار لكن الرصاصات كانت له بالمرصاد.

أقول ما أقول ولا تعترض أمي رغم أنها تدرك جيداً بأني لم أرى مشهد الاغتيال وأني وصلت للطابق الأرضي بعد انتهاء كل شيء ، ربما مخيلتي الطفولية هي من صورت لي هذا المشهد أو ربما استدعته ذاكرتي من أحد مشاهد الأفلام التي كنتُ أشاهدها على التلفاز.

تم إغلاق المدرسة لمدة أسبوع ، وبعدها عُدنا إليها ، كنتُ أتحاشى الدرج الداخلي والردهة التي تتوسط حجرة الناظر وحجرة المُعلمين ، كنتُ دائمًا أرى بقعة الدماء الحمراء القانية هناك ، رغم أنهم نظفوا المكان جيداً !

لم أعد أذهب لإحضار الطباشير الملون ، ولم تعد خطوتي تقودني إلى هناك ، أملاً بأن يسمح لي الناظر بدق الجرس!

بعد مرور أقل من شهر تم توزيع منشوراً على سكان المنطقة ، يقولون فيه أن اغتيال الفراش كان بالخطأ ، وأنه لم يكن عميلاً ، ويقدمون خالص اعتذارهم لعائلة الضحية!

*****



هناك 3 تعليقات: