الاثنين، 27 يناير 2014

يوسف


# حوليات
(211)
يوسف

دلف الصحفي الأجنبي إلى غرفة الفصل ، ترافقه معلمة اللغة الإنجليزية والتي كُلفت من قِبل المديرة بمساعدته في مهمته التي جاء من أجلها ، وهي إجراء مقابلة مع تلميذ من تلاميذ المرحلة الابتدائية.

ألقى بالتحية على التلاميذ بلكنة عربية مكسرة ، ثم بدأ يتفحص وجوه الصغار لعله يعثر على الطفل المناسب لإجراء المقابلة معه.

مضت الدقائق بطيئة وثقيلة بينما خيم الصمت على الصغار منتظرين ومتلهفين لمعرفة من سوف يقع عليه الاختيار.

حاولت المعلمة أن تساعده بعد أن رأت الحيرة على وجهه ، ترددت لكنها استجمعت شجاعتها وقالت له بلغة إنجليزية سليمة : هل تحتاج لمساعدة ؟

لم ينظر لها الصحفي ، هز كتفه واستمر في تفحص الوجوه لعله يعثر على ضالته.

لم تفهم هل تلك الحركة التي قام بها تعني نعم أم لا ، لذلك قررت أن تستكمل كلامها ، فاستطردت قائلة وهي تشير إلى أحد التلاميذ:

-       هذا معتصم ، إنه من أكثر تلاميذ الفصل ذكاءً ونبوغًا.

نظر إليه الصحفي لمدة دقيقة كاملة ثم هز رأسه ، وفي هذه المرة فهمت أن هذه الحركة تعني لا ، لكنها تشجعت أكثر وبدأت تعرض عليه التلاميذ تباعًا ، كانت تمشي بين الصفوف ، تشير لهذا الطفل وذاك وتأمرهم بالوقوف ثم تبدأ في عد مزايا كل واحد منهم.

-       هذه هبة ، لها صوتٌ ملائكي وهي التي تنشد السلام الوطني في طابور الصباح.
-       وهذا عبد الله ، عريف الفصل وهو محبوب من قبل زملائه.
-       أما هذا فهو سمير رئيس الكشافة ، وهو تلميذ نجيب أيضًا.

وهكذا استمرت المعلمة في اختيار التلاميذ ، تثني عليهم وتعرضهم على الصحفي المتجهم الذي ما انفك يهز رأسه بالرفض.

لذلك لم تجد المعلمة بدًا من الصمت ، وقد أصابها الضيق والملل لفشلها في مساعدته على اختيار تلميذ ، عادت إلى مقعدها تاركةً إياه وحده يتنقل بين مقاعد التلاميذ الذين تجاوز عددهم الأربعين لعله يعثر على ضالته وحده.

انهمك الصحفي في تفرس وجوه التلاميذ مرة تلو الأخرى ، وبعد أن أوشك هو الآخر على اليأس من الحصول على ضالته المنشودة ، لمح طفلًا يجلس بالقرب من النافذة ، ينظر من خلالها ويبدو على وجهه عدم الاكتراث والمبالاة بما يحدث داخل الفصل ، اقترب منه أكثر ، وهنا انتبه التلميذ للصحفي فاخفض بصره خجلًا.

-       ما اسمك ؟ قالها الصحفي بتودد.

تلعثم الطفل وأجاب:

-       يوسف.

-       كيف حالك يا يوسف ؟ قالها بلكنة عربية ثقيلة ، ثم أشار إلى المعلمة بيده لتقوم بدور المترجم بينه وبين يوسف الذي على ما يبدو أنه قد وقع عليه اختيار الصحفي.

جاءت المعلمة وقد ارتسمت على ملامحها أمارات الدهشة والعجب ، فهذا التلميذ بالكاد تذكر اسمه أو تشعر بوجوده أساسًا في الفصل ، فهو لم يكن من المتفوقين ولم تظهر عليه حتى علامات التميز في أي نشاط مدرسي ، لكنها لم تعترض ورضخت لاختيار الصحفي.

أدرك الصحفي دهشة وعجب المعلمة وربما عدم رضاها عن اختياره وذلك من حركة حاجبيها اللذين ارتفعا عاليًا ، لكنه لم يعرها أي انتباه ، بل طلب منها ترجمة كلامه ونقله للتلميذ.

قال الصحفي:

-       يوسف ، أريد منك أن تحكي لي حكاية لم يروها أو يسمعها أحدٌ من قبل ؟

صمت الطفل لفترة طويلة وخُيل إليهم بأنه لن يتكلم أبدًا ، لم يستعجله الصحفي وظل ينتظره حتى يبدأ.

ابتلع يوسف ريقه وشرع في الحديث:

-       كان يا ما كان ، يا سادة يا كرام ، أم تقف في مطبخها ، تعد طعام العشاء لزوجها وأطفالها بينما كان الأب يجلس ويشاهد نشرة الأخبار على جهاز التلفاز ويتجمع حوله أطفاله ، فالحرب على غزة ما زالت مشتعلة ، قصفٌ هنا وهناك ، والقتلى في كل مكان. فجأة سقطت قذيفة دبابة على المنزل الصغير وانهار جزء كبير منه. ساد الصمت لدقائق ، ثم فجأة انبثق صوت الأم ضعيفًا في الظلام ، تنادي زوجها وأطفالها، لم يجبها أحد سوى ابنها الأوسط ، زحف على يديه وقدميه حتى وصل إليها ، وقد وجدها تستند على الحائط وقد اختفت قدماها ، احتضنته وسألته بصوتٍ واهن عن البقية ، فأخبرها أن والده يقبع فيما يشبه الحفرة داخل الصالون دون حراك وتجثم فوق صدره أخته الصغيرة ولاء ، أما سمر وسحر ، فقد اختلطت أشلاؤهما ، وعندما صمت ، سألته عن أخيه الأكبر محمد ، فهز الابن كتفيه وقال لها أنه لم يراه ، فقط يده المُمسكة بكتاب الرياضيات كانت مُلقاة بجانب جهاز التلفاز المُهشم!

أخفت الأم دموعها وابتلعت ريقها بصعوبة ، وقالت لابنها : لا تخف ، أنا هنا معك ، لن يحدث لك مكروه ، كل شيء سوف ينتهي سريعًا ، لا تبكِ ولا تجزع مهما حدث ، والآن اسحب تلك السجادة المهترئة وضعها فوق أبيك وأخواتك ، ثم حاول أن تحضر لي غطاء رأسي ، لا أريد أن يراني أحد هكذا.

هز الابن رأسه وأسرع فسحب السجادة أو ما تبقى منها ووضعها فوق والده وأخواته ، ثم وجد ثوب الصلاة الخاص بوالدته ، أمسك به وأسرع إلى والدته في المطبخ ، نادى عليها فلم تجبه ، كانت عيناها مفتوحة ومحملقة في الفراغ ، نادى عليها مرة أخرى فلم تجبه ، جلس بجوارها لا يدري ماذا يفعل ، وضع يده على كتفها برفق وهز جسدها لعلها تصحو ، لكنها لم تفعل ، وانكفأت على جنبها الأيمن ، توقف عن محاولة هزها مرة أخرى وبقي دون حراك ، ثم تذكر كلماتها ، وضع الغطاء على رأسها ، وجلس بجوارها صامتًا ينتظر!

سأله الصحفي بتأثر، وكان كمن يخمن الإجابة : من تلك الأم يا يوسف؟

حبس يوسف دموعه وقال : هي أمي وأنا ذلك الابن.

تراجعت المعلمة للخلف مذعورة مما سمعت ، تعاتب نفسها وتلومها لعدم انتباهها لهذا التلميذ الصامت من قبل وعدم معرفتها بما يعتمر به صدره الصغير.

اغرورقت عيناها بالدموع ، حاولت أن تمنعها من السقوط لكنها فشلت ، وضعت يدها على فمها الفاغر في محاولة يائسة لحبس شهقاتها المتتالية.

وهنا نظر إليها الصحفي ولم ينبس ببنت شفة ، أدرك أن دوره قد انتهى بحصوله على مراده ، تنهد في سره ، وقد عزم على نشر قصة يوسف كما وردت على لسانه هو دون تعديل أو إضافة. 

جمع أوراقه ، طأطأ رأسه وغادر قاعة الفصل بهدوء.

******

هناك 5 تعليقات:

  1. ما تخيلت أنو القصة هيك , ...
    و بس ..

    ردحذف
  2. رائعة جدا .. سلمت الانامل التي خطت هذا الكلام ..

    ردحذف
  3. جميلة جداً ومؤلمة
    سلمت يداك عزيزتي امتياز :)

    ردحذف
  4. أوجعتني حد الكفاية

    ردحذف