# حوليات
(144)
شهادتي على حرب غزة الثانية
في الذكرى الأولى للحرب
الجزء (5)
اتصل زوجي بمكتب التاكسيات ، يستفسر منهم عن إمكانية استئجار
سيارة توصلنا إلى رفح ، كان التردد واضحًا في صوت الموظف هناك لكنه وافق بعد أن
تأكد أننا من زبائنه الدائمين.
جاءت السيارة وكنا قد جهزنا أغراضنا وحملنا بعض الأشياء المهمة
مثل بطاقات الهوية وبعض الأوراق المهمة بجانب بعض الثياب ومستلزمات الصغار ،
وتركنا خلفنا نوافذ الشقة مفتوحة.
وقبل أن اخرج من البيت لمحت كيسًا به بعض الشظايا التي نسي
زوجي إخراجها ، حاولت إغلاق الكيس فَجُرِحَ إصبعي ، سالت الدماء بغزارة ، وقد
انزعج زوجي كثيرًا وخاصة أنه حاول على قدر استطاعته أن يجنبني لمس الزجاج المتكسر
خوفًا من إصابتي بضرر ، لكن قدر الله وما شاء فعل.
ربطت إصبعي ونزلنا من الشقة ، ومازالت أصوات القصف تعلو فوق
رؤوسنا ، ركبنا السيارة ونظرت من نافذتها ، ولاحظت خلو الشارع من المارة ، شعرت
لوهلة بالخوف ، احتضنت أطفالي ، وانصرف زوجي إلى الحديث مع السائق.
أخبرنا السائق بأن غالبية سكان حي تل الهوى قد غادروا منذ
ساعات الفجر ، وأنه قد أوصل بسيارته حوالي ثلاثين عائلة ، نقلهم خارج الحي ،
فالجميع هنا كانوا خائفين من تكرار مأساة الحرب الماضية ، فهذا الحي وإن كان
هادئًا إلا أنه مستهدفًا من قوات الاحتلال ، ولا اعرف سببًا واضحًا لذلك.
وقال لنا أيضًا بأن الطلبات انهالت على المكتب منذ صباح الأمس ،
وكل سيارة من سيارات المكتب قد نقلت العديد من الأسر خارج الحي ، لقد أصبح حي تل
الهوى خاليًا من قاطنيه ولا تسكنه إلا الأشباح!
عندما اقتربنا من مفترق (دوله) ، أشار السائق إلى حفرة عميقة
في منتصف الطريق ، تجاوزنها وقال لنا بأن صاروخًا قد سقط هنا بالأمس ، وأشار إلى
منزل قريب وقال هذا هو منزلنا ،ولقد شاهدنا الصاروخ وهو يسقط.
عندما وصلنا للمفترق ، سمعنا صوت ارتطام قوي ، اهتزت له
السيارة وكاد السائق أن يفقد السيطرة على سيارته وما هي إلا دقائق حتى جاءته
مكالمة من زوجته تخبره فيها أن صاروخًا قد سقط في نفس المكان الذي سقط فيه صاروخ
الأمس ، ارتبك السائق وابتسم محاولًا إخفاء توتره ، وقال لزوجته ، لقد مررنا من
هناك قبل دقيقة أو أقل ، حاول أن يطمئنها ويهدأ من روعها ، وطلب منها أن لا تدع
الأولاد يخرجون من البيت حتى موعد عودته.
يا إلهي ، قصفوا نفس المكان الذي عبرنا منه قبل دقيقة ، لو
تأخر السائق قليلًا ، لكنا الآن في عداد الأموات.
ابتلعت ريقي بصعوبة ، وقلت بيني وبين نفسي يا ليتنا لم نغادر
البيت وبقينا هناك ، لماذا نعرض أطفالنا للخطر ، لكن سواء أبقينا أم غادرنا ،
فالخطر هو الخطر ، سلمتُ أمري لله وقلت لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
على طول طريق صلاح الدين لم نرى أي سيارة ، كان الشارع الذي لا
يخلو من السيارات ليلاً ولا نهارًا مقفرًا خاليًا على عروشه.
كانت سيارتنا تنهب الأرض نهبًا ، وعندما اقتربنا من دير البلح
على الشارع الرئيسي الذي يربط شمال القطاع بجنوبه بدأ القصف يشتد ، كانت الصواريخ
تهطل من السماء على جانبي الطريق بصورة رتيبة ومتواصلة ، صاروخ ينزل على هذا
الجانب يتبعه صاروخًا يسقط على الجانب الأخر ونحن في المنتصف ، شعرت بأني أعيش
داخل فيلم رعب أو فيلم أكشن لجيمس بوند !
الصواريخ تتساقط كحبات المطر بلا توقف ، وأعمدة الدخان تحاصرنا
في المنتصف ، كل صاروخ ينزل اشعر بأنه يستهدف سيارتنا ، أغمض عيني وأتمتم ببعض
الآيات ، وأضم أطفالي إلى صدري أكثر فأكثر ، لم أكن خائفة على نفسي ولم أكن خائفة
على زوجي ، كان كل همي وخوفي ينصب على هذين الطفلين ، ما ذنبهما في كل ما يحدث ؟!
لم يقترفا ذنب أو خطيئة حتى يتعرضا لكل هذا.
استمر القصف طوال الطريق ، لم يتوقف حتى وصلنا لمدينة رفح ،
تلك المدينة التي لم أكن أتوقع – بعد ما شاهدته على الطريق – أننا سوف نصل إليها سالمين.
كانت أطول 40 دقيقة في حياتي ، هي المدة التي استغرقتها رحلتنا
في الوصول من غزة إلى رفح.
حمدت الله كثيرًا عندما وصلنا لبيت عائلة زوجي ، لم اصدق نفسي
بأن فيلم الرعب الذي عايشنه قد انتهى على خير.
وقف زوجي مع السائق قليلًا وشكره على قبوله توصيلنا في هذا
الظرف الصعب وتمنى له السلامة.
يتبع ..
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق